العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. وطن حزين وعدالة مفقودة

يمنات

أحمد سيف حاشد

تحت هذا العنوان “وطن حزين وعدالة مفقودة” كتبت مقالا في قضية مقتل صهري وسائقي عادل، وفيه بعض التفاصيل المكتظة بالوجع اللاسع والقهر العميق.. تم نشر المقال في العدد 4182 من صحيفة الأيام، وأعدتُ نشره في 1 يونيو 2004 في نشرة “القبيطة”، وأعيد هنا نشر جل ما جاء فيه؛ باعتباره بعض من واقع مرير عشته بإمعان، وكان له معنى عميق وتأثير بالغ في حياتي.. إنها إحدى المحن التي عشتها بمعاناة ثقيلة وأرق أستمر.. بعض من الظلم الذي أثقل حياتي المتعبة، وألقى بضلاله وتأثيره على الحقبة التي عشتها لاحقا ربما بإرادة منتحر، وبكلفة أكبر تعيّن دفعها حد النزيف الطويل:

“عادل صالح يحيى الذي قتل حزيناً ومقهوراً ويائساً من أن يطال نتف من حق مسلوب وعدل مفقود ضاعا بين سطوة القبيلة ونفوذ الفساد وتواطؤ الجهات المسؤولة وعجرفة بعض أبناء المسؤولين..

عادل.. لا يحمل مسدساً بل لا يحمل حتى سكيناً .. ليس له قبيلة تؤازره أو تأخذ بحقه أو تثأر له في دولة لا زالت القبيلة تنتعل القانون وتكتم أنفاس الوعي وتقتله خنقاً وشنقا..

عادل .. من أبناء عدن الطيبين المعهودين بالبساطة والنقاوة والمسالمة التي يذبحها كل يوم الاستقواء بالمال والقبيلة والسلطة وغرور الباطل وعجرفة الطائشين من أبناء المسؤولين.

حادث صدام طفيف وأضراره لا تذكر.. تم إيقاف السيارتين وجاء رجل المرور الذي كان على بعد مائتي متر أو أقل، وطلبنا منه أن يقوم بواجبه وفق النظام والقانون.

تدخل الناس وكادت القضية تنتهي على خير ويا شارع ما دخلك شر.. ذهبت أنا الى وجهتي وتركت الامر والحل وشيك..

افضل ما يمكن أن يقال بحق ابن المسؤول انه أستكثر أن يستوقفه رجل المرور لدقائق على قارعة الطريق.. وقبل أن تنتهي عشر دقائق يبلغني المجني عليه بصوت مذبوح وقلب مفطور أن ابن المسؤول الذي لا يتجاوز عمره العشرين سنة قد جاء بأربع سيارات شرطة وجيش محملة برجال كثر بعصي غلاظ و جنابي حداد..

لقد أستأسد عشرون (رجلاُ) على اثنين عزل من السلاح لا يحملان معهم حتى عود عنب، ولا يحلمان بغير أن يريا النوارس واسراب الحمام تطير في سماء وفضاءات الوطن الحزين..

انهالوا عليهما بالضرب والركل واستباحوا وعاثوا بكل شيء اسمه إنسان.. لم يتركوا لهما فرصة يسمعون منهما منطق أو حجة، بل ولم يتركوا لهما حتى فرصة الهروب من الجنابي التي كادت تقتل لولا تدخل بعض المارة الذين حالوا دون ان تصل الى أجساد المجني عليهما.. و لم يفلحوا بالوصول الى النائب الذي كانوا يبحثون عنه.

احد المجني عليهما تحفظ عن التصريح باسمه لأنه شعر بمرارة لا تطاق وانكسار لا حدود له.. لا تحزن يا عزيزي.. أنهم أبطال من ورق، وإلا كيف لعش دبابير أن يهاجمون نحلة.. معادلة غير متكافئة في وطن يستبيح فيه المال وعربدة المسؤولين وسلطان القبيلة كل شيء.. وأول ما يستباح هو كرامة الإنسان لأنها في قواميسهم أسهل من السهل غير الممتنع، وأرخص من حزمة بصل…

نعم .. يبدون أمامنا ديناصورات لأننا عاشقون للورد وحالمون بالسلام، ولكنهم في الحقيقة أمام من هم أقوى منهم زيف وهراء وخواء مخجل.. كل يوم ينكسرون أمام العدو عشرات المرات.. قواهم تخور، وسلطانهم يتهالك، وعزيمتهم تموت قبل أن يبدأ العدو معهم أول نزال.. فلا تصدقوا هراهم فهم أجبن من فأر..

ولأنكما مسالمان كتب عليكما أن تكونا مجني عليكما، ولن تكونا غير ذلك لأنكما تحملان مناديل بيضاء وعصافير ملونة وقلوبا أنصع بياضاً من القطن وندف الثلج..

عدت بعد ربع ساعة الى مكان الاعتداء ووجدت سماء من حزن وجرح يتسع لوطن مقهور ومعذب، وإنسان يقبض على وجعه.. والأخر أشلاء ووقار ممزق.. غير أن ما يحز في النفس أكثر أن تجدهما يداريان عنك جراحهما الغائرة، ويمعنان في الحرص أن لا تصيبك شظية حزن أو شرر من وجع مما حل بهما.. أنه الحب والأحبة، ونبل المشاعر وبعض من نبوّة..

عدت وقد انتهى كل شيء والمجني عليهما قد شربا كأساً من علقم وكاسات من الانكسار الحزين و شربت معهما من الانكسار كؤوسا..

لجأنا للقانون عساه أن ينصفنا، وطلبنا من النيابة التحقيق في الشكوى وضبط المعتدين غير أن النيابة المختصة آثرت إحالة القضية لأمن منطقة الوحدة لأنها ربما لمحت فيها ما يعكر صفوها ويوجع رأسها.

استمعت إدارة أمن منطقة الوحدة لأقوال المجني عليهما وكذا أقوال بعض الشهود وكنّا نتطلع أن تباشر إجراءات متابعة المعتدين وضبطهم ولكن ظل ذلك منا أمر بعيد المنال..

نصف شهر يمر و لم يحرك أمن المنطقة ساكناً ولم يتم رفع محاضر جمع الاستدلالات للنيابة.. وعندما سألنا عن مصير القضية قال لنا أحدهم في درج المدير…

عندما ألححنا على مسؤول طيب في المنطقة بمتابعة وضبط المعتدين أعرب عن خوفه وخشيته أن يتحول الى شاوش.. فقلت لنفسي: إذا كانت أجهزة الأمن لا تجرؤ على سؤال أبن مدير فكيف يكون حالها مع ابن الوكيل وابن الوزير و لا أزيد..؟!! و إذا كان هذا يحدث مع نائب فكيف يكون الحال مع المواطن المغلوب الغارق في الهم اليومي والمخنوق بحبال الفقر والنكد وسطوة الحاجة..؟!!

بعد نصف شهر من وجود القضية في أمن المنطقة وبعد أن يئسنا من أن تقوم إدارة الأمن برفعها للنيابة أو باتخاذ أي إجراء ضد المعتدين، و بعد أن لقى المجني عليه حتفه أتصلت بمدير أمن المنطقة لأبلغه عتبي وخيبة أملي وشدة صدمتي؛ فأجابني بصوت غير عابئ لا يحمل وزناً لضحية مثل الغلبان المقهور عادل: (أنا لست موظفاً معك).. بعدها أدركت أن هذا الخطاب يقف وراءه دعم وسلطان وتعالي مسؤول.. نعم هذا يحدث مع نائب فكيف الحال مع المواطن المكدود الذي تسحقه الظروف ويطحنه الواقع الطافح بالفساد والقبيلة وعنترية المسؤولين.

ولا أخفي سراً إن قلت: لقد كنت أتمنى أن تعلم وزارة الداخلية لمثل هؤلاء مادة القانون ولكن صرت أتمنى اليوم أن تعلمهم الذوق والأخلاق مع المواطن، لأن المصيبة أكبر والأمر جلل عندما يجتمع الجهل مع عدم الذوق في رجل يفترض أن يحمي كرامة وحرية و دماء وأعراض الناس.

وللحريات أحزان وماسٍ أخرى.. لقد أتصلت بعد سويعات من وقوع الاعتداء بواحد ممن يدعون أنهم حماة الحقوق والحريات، وأخبرته بقلب دام بما حدث، ولكنني يا ليت ما فعلت، فقد تلذذ الرجل بما حصل، وعرفت أنه مدع عابث لا يعرف للحقوق والحريات طريق، بل هو رجل أمن لا زال يعيش بعقلية الحرس القديم التي كانت تصول وتجول في حقبة السبعينات والثمانينات رغم أنه لازال حديث عهد..

وفي مجلس النواب قمت بجمع حملة توقيعات من أعضاء مجلس النواب لهيئة رئاسة المجلس بلغت أكثر من تسعين توقيعاً على عريضة يطلبون فيها من هيئة رئاسة المجلس تشكيل لجنة تحقيق ومتابعة وضبط المعتدين، غير أن الرئاسة أحالت الأمر على لجنة الدفاع والأمن والذي أبلغني بعض أعضائها إن (المسؤول) قد حكّم باثنين بنادق.. وضغط البعض لأقبل التحكيم، بل وألمح أحدهم أن تقرير اللجنة سيقع مثل تقرير رداع..

لقد حاولت دون جدوى أن أفهم بعض (الناصحين) وغيرهم أن أبن المسؤول وجماعته ما كانوا يجرؤون على فعل ما فعلوه لو أدركوا أن القانون يطالهم ولو بحبس يوم واحد، وعرفت أن فلسفتهم تقول: أكسر كرامة المواطن الطيب والغلبان كعود ثقاب ثم أسليه وارضيه بذبح شاة أو عقر ثور.. ويظل هو الشامخ على مر السنين .. ظافراً ومنتصراً على الوطن البائس والمواطن الغلبان.

نصحني أحد الزملاء أن أحتاط وأبحث عن بعض القتلة وقطّاع الطرق ليكونوا لي حراسا ومرافقين وأعواناً أصون فيهم كرامتي وحياتي وحياة وكرامة من معي مثل ما يفعل أخرون، ولا بأس أن أعتدي على من هو أصغر مني إن شئت.. فقلت له لن أفعل و إن ظلوا هم كذلك يفعلون.

وما زالت رحلتي مع العدالة المهترئة مضنية وشاقة، وما زلت في أول الطريق، وما زلت أطالب بضبط بقية المعتدين وهم كثر، وطريق العدالة في بلادنا متاهة لا تنتهي، وقد ينتهي بك العمر قبل أن تطال أريجاً منها.. ولكن هذا قدرنا في بلد لا زال قدرها يعبث به المال والجاه والفساد وسلطة القبيلة وبعض أبناء المسؤولين….”

***

يتبع..

زر الذهاب إلى الأعلى